حسبما يرويه المجاهد كعو محمد، زميل الشهيد جابر في النضال أنه في شهر
مارس 1955 أي سي جابر، وفي ليلة ممطرة جدا جمع الشهيد المناضلين في اجتماع هام، وشرح لهم الأوضاع المستجدة على الساحة السياسية، والتوقعات المحتملة، وبعدها قسم المناضلين على مجموعات صغيرة وحدد مسؤولي هذه المجموعات وفي النهاية طلب من جميع أفراد هذه المجموعات ضرورة امتلاك كل فرد لحبل وكيس وكمية من الطعام، وقد تم إعلام أفراد هذه المجموعات على شكل انفرادي، وعلى أثرها حدد لهم مكان اللقاء بمكان يدعى حرق
النحل الواقع بين مغنية وبلدية بني سنوس وفي هذا المكان انضمت المجموعات في مجموعة واحدة. وأنيطت القيادة لشخص يدعى سي بركاني محمد بن قدور (اسم الثورة سي مراد) وفي هذه الفترة تم الاتصال مع الكاف ومغنية والسلسلة المتاخمة للحدود المغربية، واتجهت القافلة نحو الأراضي المغربية لجلب السلاح والذخيرة، ولكن الحظ لم يكن في صالحها إذ فشلت في الوصول إلى هدفها، وذلك بسبب انقطاع الخيط، وعادت المجموعة بدون سلاح وهنا أعاد القائد الشهيد دراسة السبل الممكنة في سبيل الحصول على الأسلحة وتوريدها بأي طريقة كانت، وهو على يقين راسخ من انه سيبلغ المرام رغم العقبات والعثرات التي قد تحول بينهم وبين ما يهدفون إلى تحقيقه، بالفعل قد تمكنت المجموعة المكلفة بتوريد الأسلحة والذخيرة من مخابئها داخل التراب المغربي من الوصول إلى مبتغاها، وأصبح بعد ذلك الطريق ممهدا لتمرير الأسلحة المطلوبة باستمرار عبر الحدود إلى داخل التراب الوطني تمهيدا لليوم الاغر، وبعد أن انطلقت الرصاصة الأولى انبري الشهيد تحت قيادة البطلين الشهيد العربي بن مهيدي، والبطل المقتدر عبد الحفيظ بوصوف في تنظيم الجماهير الشعبية ووضع القواعد المادية استعدادا لخوض غمار المعارك المقبلة، وما كاد يتوثق من الروح الجبارة التي تمكنت من جنوده الابطال حتى خاض بهم معركة جبل بو حمامة في الأول من شهر مارس من سنة 1955، وكان جنوده لا يتجاوز عددهم ثلاثة مجموعات يقودهم رجال أشداء أمثال الوهاب محمد، وسمار علي، وعبدون عبد الله (اسم الثوري الهواري) وحمى وطيس
المعركة واستبسل المجاهدون في هذه المعركة بقيادة الشهيد جابر بمساعدة قادة المجموعات الثلاثة استطاع خلالها المجاهدون القضاء على سبعة وعشرون جنديا للعدو واستشهد مجاهدان رحمهما الله.
واقعة استشهاده
في الهضبة المتواضعة الواقعة بسفح جبل "جنان القايد" تتربع قرية صغيرة يؤمها عدد
من السكان الآمنين يتمهن أغلبهم الرعي والزراعة، تدعى تالة والمكان بالضبط الذي كان الشهيد يختبئ فيه مع خمسة من جنوده يسمى يحيا والخيار "نسبة إلى نبات يعيش بالمنطقة" وتبعد المنطقة من مدينة تلمسان بنحو خمسين 50 كلم جنوب شرق المدينة، ضمن تراب بلدية سيد العبدلي (المسافة بين مقر البلدية ومكان الاستشهاد حوالي 25 كلم) في هذا الصدد يروي المجاهد علي ربيب مدير ثانوية الدكتور بن زرجب بتلمسان ذكرياته عن هذا اليوم بما يلي:
في 27 ديسمبر 1957 ألقت قوات العدو القبض على ثلاثة ضباط بالمنطقة، وهم سي شعبان، وإدريس، وسي لخضر بناحية صبرة ولاية تلمسان (قتل إثنان وبقي واحد هو سي لخضر) وإزاء هذا الوضع المستجد أصبح من الضروري على الشهيد جابر زيارة المنطقة بهدف إعادة ترتيب الأمور وتنظيمها، وقبل الوصول إلى المنطقة التي شهدت استشهاده وقعنا في حصار شرس لقوات العدو في أم العلو، ورغم حصارنا استطعنا الإفلات منه واتجهنا مباشرة إلى القرية بيد
أن الحالة المأساوية التي آلت إليها وضعيتنا بعد وصولنا إلى القرية، لم نتمكن من الإفلات من الحصار الذي ضربته قوات العدو المهاجمة، إذ بمجرد وصولنا إلى القرية نزلنا بأحد منازلها لدى مناضل، واختبأنا بخندق مهيئ، داخل المنزل وكان لهذا المناضل أخ صغير كان على علم بدخولنا لهذا الخندق، غادر على إثرها المنزل واتجه مه رفيق له إلى مكان ترعى به حيواناتهم وما هب إلا لحظات حتى خرجت عليهم قوات العدو، وكان من ضمنها مجموعة من الخونة "الحركى" وباغتوا الطفلين بالأسئلة مصحوبة بتهديد شديد يلحون فيها على كشف أماكن تواجد المجاهدين، وبسبب الخوف والهلع الشديدين الذين تمكنا من نفس الطفل قادهم مباشرة إلى منزل أخاه وأومأ لهم برأسه نحو الخندق الذي ضرب حولنا،
حاول سي لحسن المسؤول الحربي للناحية الخروج من الخندق وبينما هو يحاول الخروج فإذا بجنود العدو يطلقون النار عليه من كل جهة فيصيبونه إصابة قاتلة، استشهد على إثرها،
وبعدها ساد الهدوء التام واستمر الحصار مفرض علينا، ولم يتحمل الشهيد الوضع الذي آل إليه فأقدم على إطلاق النار على نفسه مفضلا الموت الشريف على ان يؤخذ رهينة عند العدو،
وهكذا استشهد الثائر البطل مطعيش عبد القادر، ولكن لا ليموت، ولكن ليتحول
إلى مثال يحتذى به في التضحية والنضال الدؤوب المتواصل الذي لم يعرف الخنوع والفتور طوال حياته المليئة بالعبر والأمثلة الجديرة بالاهتداء بها في سبيل تحقيق الأهداف المتوخاة.
مقتبس من مجلة أول نوفمبر العدد 40/1979 بقلم زبير بوشلاغام
29.11.2019
في اليوم الثالث عشر من شهر فبراير سنة 1958 سقط البطل مطعيش عبد القادر المعروف باسم الرائد جابر، شهيدا في ميدان الشرف بعد حصار شديد قامت به القوات الاستعمارية، فوق تراب بلدية سيد العبدلي التابعة لدائرة تلمسان – ولاية تلمسان – والشهيد البطل من الشباب الجزائري الثائر الذين لبو مند الوهلة الأولى نداء الفاتح من نوفمبر 1954 الخالدة.
وقد قدم الشهيد خلال سنوات الكفاح خدمات جليلة في الميدانين التنظيمي والعسكري واستطاع خلالها أن يحرز على انتصارات معتبرة ضد التواجد الاستعماري بالمنطقة، وفي هذه العجالة المختصرة نقدم صورة متواضعة لحياة ونضال هذا البطل المقدام.
ولد الشهيد مطعيش عبد القادر (اسم الثورة جابر) سنة 1928 بقرية أولاد موسى بلدية بني سنوس دائرة سبدو - ولاية تلمسان – في أسرة فقيرة متواضعة توفي والده وهو لا زال بعد في مقتبل العمر (كان آنذاك عمره 12 سنة لا غير) فغمرته امه بحنانها ورعايتها وتكفل جدّه لأمه بتربيته ورعايته حيث كانوا يرون فيه أملهم الباسم والغد المشرق، وهكذا نشأ الشاب مطعيش عبد القادر (جابر) يواجه مصاعب الحياة منذ طفولته. نظرا لوضعه العائلي المزري لم يتمكن من الالتحاق بالمدرسة كبقية زملائه المحظوظين، فاتجه وجهة أخرى، وامتهن العمل في الميدان الفلاحي كخماس لدى قايد البلدية، ولكن وضعه هذا لم يكن حائلا بينه وبين ما يصبوا إلى تحقيقه إذ عرف الشاب بين أقرانه بالجد والمثابرة كما ظهرت سيمات النبوغ والذكاء الحاد والتواضع والتحلي بالأخلاق الرفيعة التي هي من سيمات أبناء الشعب الجزائري الأصيل، وقد مكنه وضعه الجديد من أن يلحظ بفكره الثاقب ونظرته الصافية مدى الجور والتعدي الصارخ اللذين يسلطهما المستعمر وأذنابه في المنطقة على الجماهير الشعبية الضعيفة، مما ألهب في نفسه روح الوطنية الصادقة منذ الصغر وجعل منه شعلة تتحفز للثورة في اية لحظة على هذا الوضع البغيض الذي تأباه كل نفس حرة كريمة، ولقد كان لبنوغه وحسن أخلاقه أن فرض على القايد بمعاملته معاملة الند للند، وكصديق أجيرا لأرضه لا كخماس، عرف معها نوعا من التحسن في أحواله المادية مما غرس في نفسه الحرة غريزة الاعتماد على النفس والعصامية الخلاقة التي هي سيمة العباقرة العظام.
وما كاد يبلغ سن الواحدة والعشرين من العمر حتى هاجر إلى ديار الغربة كغيره من أبناء الشعب الجزائري التي فرضت عليهم الأوضاع المعيشية ضرورة البحث عن مكان أفضل لتحسين هذه الوضعية المزرية وهكذا وفي عام 1949 هاجر بطلنا إلى فرنسا وهناك تفتحت عيناه على الحقيقة المأساوية وإلى متى البون الشاسع بين الأوضاع الاجتماعية التي يتخبط فيها الشعب الجزائري وبين الأوروبيين الغزاة، ولم يجد أية وسيلة علها تحقق له ما يختلج في صدره وتحقيق الحلم الجميل الذي طالما تمناه، سوى الانخراط في حزب حركة الانتصارات للحرية الديمقراطية أقوى الأحزاب الجزائرية آنذاك وهو لا يزال بعد عنفوان الشباب، واستمر على ذلك مناضلا ضمن صفوف هذا الحزب متحديا غطرسة الاستعمار وأذنابه المحليين، هازئا بوعيده وتهديده، متحليا بالخصال السامية أخلاقا وتدينا وتشبتا بالقيم الإسلامية والوطنية العليا، الشيء الذي اكسبه بين أقرانه المناضلين التقدير والإجلال، مما أهله لأن يصبح متحملا مسؤولية تهيئة وإعداد المناضلين استعدادا للوثبة الكبرى ولليوم الموعود.
وقد تمثل نشاطه في هذه الفترة في قيادة المسيرات والمظاهرات التي تندد بالاحتلال الاستيطاني، وتجاهل المطالب المقدسة للشعب الجزائري المتمثلة في الحرية والاستقلال. وفي سنة 1951 عاد إلى أرض الوطن ليقيم به فترة وجيزة تزوج خلالها ثم عاد إلى فرنسا للعمل في الميدانين، لكنه لم يمكث سوى عاما واحدا ليعود مرة أخرى إلى أرض الوطن (عام 1952) واتجه مباشرة إلى قريته بأولاد موسى ليبدأ المرحلة الثانية من نشاطه السياسي المكثف داخل الوطن وعلى الخصوص داخل قريته حيث يعتبر الشهيد أول من ادخل التنظيم إليها وكان هذا كافيا لإثارة الشبهة نحوه، بيد أنه استطاع بفضل حنكته ومهارته النضالية أن يحقق فوزا ساحقا عليهم رغم مكائد المستعمرين وأذنابهم الهادفة لوضع حد لنشاطه الذي ما أنفك يتعاظم بمرور الوقت، وأكد له أكثر فأكثر بأن القوة الحقيقية تكمن في قلوب الجماهير لا في غطرسة المستعمرين. وهنا لا يسعنا إلا أن نذكر بأن من جملة الأسباب التي مكنته من ان يلعب دوره كاملا وبدون عرقلة هو لتلكم المكانة الرفيعة التي كان يحظاها شهيدنا المغوار لدى قايد البلدية، إذ أبعد عنه عدة مرات مخاطر كادت تعصف به ولم يزده ذلك سوى مواصلة النضال الذي لم يعرف الفتور متخذا عدة أساليب للاختفاء عن اعين العدو وأذنابه، إلى أن حدث الانقسام المعروف في صفوف حزب حركة الانتصار سنة 1953، وكان شهيدنا المغوار قد ضاق درعا كغيره ونفذ صبرهم بالأساليب العقيمة التي ما انفكت فئة السياسيين اللاهثين وراء الحلول الوضيعة، والجري وراء السراب، وهكذا كان هذا الانقسام فرصة فريدة اغتنمها المخلصون من أبناء الوطن لوضع حد لسياسية الكلام والتهريج الديماغوجي، ويومها أقدم الشهيد جابر وفي إطار السرية التامة على اختيار رجال أوفياء لتدعيم وتكثيف نشاط هذه الجماعة في سبيل إرساء القواعد المادية والمعنوية استعدادا للوثبة الكبرى، وإلى هذه الفترة يعود الاتصال الأول حسب المعلومات التي استطعنا الحصول عليها من رفاقه المناضلين الذين عاصروا مجريات وأحداث هذه الفترة بين المناضلين بقيادة الشهيد الرائد جابر وبين المجاهد عبد الحفيظ بوصوف الذي عرف آنذاك تحت اسم سي عبد الله، ثم سي الجيلالي، ليتحول فيما بعد إلى اسم سي مبروك وذلك تماشيا مع مقتضيات ومتطلبات العمل السري، ثم تلى هذا اللقاء لقاءات أخرى تمخض عنها زيادة تدعيم قدرات التنظيم واتساع رقعته ليشمل جميع القرى المجاورة مستعينا في ذلك بشخص يدعى قديري حسين المعروف بالمنطقة، لوضع اللمسات النهائية للانتقال إلى مرحلة العنف الثوري، وكانت الشرارة الأولى في ساعة الصفر في اليوم الأول من شهر نوفمبر 1954 أين جرت عدة عمليات بالناحية تمثل أغلبها في قيام الرعيل الأول من المجاهدين بالقيام بهجومات ضد العدو وإن كان جلها قد تم ضد مراكز حراس الغابات وضيعات المعمرين والخونة المحليين بالمنطقة.
وفي غمرة تطلعاته وطموحاته من اجل مواصلة العنف المسلح ضد التواجد الاستعماري بالمنطقة اسندت إليه مسؤولية الإشراف على ثلاث بلديات بعدما تأكدت اهليته لتلك المهمة، وقد كان في مستوى الآمال، حيث اضطلع بهذه المهمة وأداها على أكمل وجه، من ذلك أن دوره الريادي ا يخفى على أحد عندما يجري الحديث عن الرعيل الأول الذين بذلوا الجهود المعتبرة من اجل إيجاد أرضية مناسبة ومتينة لدفع عجلة الثورة إلى الامام.
وهذا ما سيرويه لنا زميله في النضال المجاهد كعو محمد ولد المختار في المقطع الموالي لهذا المنشور.
يتبع ...
مقتبس من مجلة أول نوفمبر العدد 40/1979 بقلم زبير
بوشلاغام
Commentaires